سورة الحج - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
اعلم أن قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة. وكان قد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأول، وقيل أمر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت فيبنى، فانطلق فخفي عليه مكانه فبعث الله تعالى على قدر البيت الحرام في العرض والطول غمامة وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال يا إبراهيم ابن علي قدري وحيالى فأخذ في البناء وذهبت السحابة، وهاهنا سؤالات:


السؤال الأول: لا شك أن (أن) هي المفسرة فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة الجواب: أنه سبحانه لما قال جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم، فكأنه قيل ما معنى كون البيت مرجعاً له، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير، وبقالبه مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.
السؤال الثاني: أن إبراهيم لما لم يشرك بالله فكيف قال أن لا تشرك بي الجواب: المعنى لا تجعل في العبادة لي شريكاً، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت.
السؤال الثالث: البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال وطهر بيتي الجواب: لعل ذلك المكان كان صحراء وكانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم ببناء البيت في ذلك المكان وتطهيره من الأقذار، وكانت معمورة فكانوا قد وضعوا فيها أصناماً فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد وذلك هو التطهير عن الأوثان، أو يقال المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك وقول الزور.
وأما قوله: {لِلطَّائِفِينَ والقائمين} فقال ابن عباس رضي الله عنهما للطائفين بالبيت من غير أهل مكة {والقائمين} أي المقيمين بها {والركع السجود} أي من المصلين من الكل، وقال آخرون القائمون وهم المصلون، لأن المصلي لابد وأن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَأَذّن فِي الناس بالحج} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن محيصن {وآذِّن} بمعنى أعلم.
المسألة الثانية: في المأمور قولان:
أحدهما: وعليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم عليه السلام قالوا لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال سبحانه: {وَأَذّن فِي الناس بالحج} قال يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال عليك الأذان وعلى البلاغ. فصعد إبراهيم عليه السلام الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس، وفي رواية أخرى على المقام قال إبراهيم كيف أقول؟ قال جبريل عليه السلام: «قل لبيك اللهم لبيك فهو أول من لبى»، وفي رواية أخرى: «أنه صعد الصفا فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم حج البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض، فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول: لبيك اللهم لبيك»، وفي رواية أخرى: «إن الله يدعوكم إلى حج البيت الحرام ليثيبكم به الجنة ويخرجكم من النار»، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وكل من وصل إليه صوته من حجر أو شجر ومدر وأكمة أو تراب، قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء، فمن أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين أو أكثر. فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، قال القاضي عبد الجبار: يبعد قولهم إنه أجابه الصخر والمدر، لأن الإعلام لا يكون إلا لمن يؤمر بالحج دون الجماد، فأما من يسمع من أهل المشرق والمغرب نداءه فلا يمتنع إذا قواه الله تعالى ورفع الموانع ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء عليهم السلام.
القول الثاني: أن المأمور بقوله: {وَأَذِّن} هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختيار أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى وتقدم قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} لا يوجب أن يكون قوله: {وَأَذِّن} يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} أي واذكر يا محمد {إِذْ بَوَّأْنَا} فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: {وَأَذِّن} فإليه يرجع الخطاب وعلى هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى: {وَأَذِّن} وجوهاً: أحدها: أن الله تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يعلم الناس بالحج.
وثانيها: قال الجبائي أمره الله تعالى أن يعلن التلبية فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه قال وفي قوله: {يَأْتُوكَ} دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به.
وثالثها: أنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجٍّ عَميِقٍ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الرجال المشاة واحدهم راجل كنيام ونائم وقرئ رجال بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجال كعجال عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله: {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} أي ركباناً والضمور الهزال ضمر يضمر ضموراً، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها.
وإنما قال: {يَأْتِينَ} أي جماعة الإبل وهي الضوامر لأن قوله: {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} معناه على إبل ضامرة فجعل الفعل بمعنى كل ولو قال يأتي على اللفظ صح وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان، والفج الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً، والعميق البعيد قرأ ابن مسعود معيق يقال بئر بعيدة العمق والمعق.
المسألة الثانية: المعنى: وأذن، ليأتوك رجالاً وعلى كل ضامر، أي وأذن، ليأتوك على هاتين الصفتين، أو يكون المراد: وأذن فإنهم يأتوك على هاتين الصفتين.
المسألة الثالثة: بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة».
المسألة الرابعة: إنما قال: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجاً فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه.
أما قوله: {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله فِي أَيَّامٍ معلومات} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله: {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ} واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا. وهي أن يتجرو في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام، وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً، وهو الأولى.
المسألة الثانية: إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات.
المسألة الثالثة: كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة، وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، قال القفال: وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلباً لمرضاة الله تعالى، واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته.
المسألة الرابعة: أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر، وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
أما قوله: {بَهِيمَةُ الأنعام} فقال صاحب الكشاف: البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
أما قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا} فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعاً على الفقراء، فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع، وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب. ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه، هذا فيما كان تطوعاً، فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها.
أما قوله: {وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} فلا شبهة في أنه أمر إيجاب، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر.
قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
أما قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. والمراد هاهنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، والمراد من القضاء إزالة التفث، وقال القفال قال نفطويه: سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ}؟ فقال ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك، ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي.
أما قوله: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} فقرئ بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك، ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول، وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك.
أما قوله: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة، أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق، ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل، وسمي البيت العتيق لوجوه:
أحدها: العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن.
وثانيها: لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير، ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل، فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب: قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبدالله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه.
وثالثها: لم يملك قط عن ابن عيينة.
ورابعها: أعتق من الغرق عن مجاهد.
وخامسها: بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل، واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر، وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر.


{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}
قال صاحب الكشاف {ذلك} خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا، والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام، وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها، وقوله: {عِندَ رَبّهِ} يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات، قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك، ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تحرم فبين الله تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة، واستثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة وهو قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّي الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وقوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} [المائدة: 3] وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور. لأن توحيد الله تعالى وصدق القول أعظم الخيرات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة، لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً وهذا أقرب، وقوله: {مِنَ الأوثان} بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء، فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس المراد أن بعضها ليس كذلك، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف، كما أن الإفك من أفكه إذا صرفه، والمفسرون ذكروا في قول الزور وجوهاً: أحدها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم.
وثانيها: شهادة الزور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائماً واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية.
وثالثها: الكذب والبهتان.
ورابعها: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
أما قوله تعالى: {حُنَفَاءَ للَّهِ} فقد تقدم ذكر تفسير ذلك وأنه الاستقامة على قول بعضهم والميل إلى الحق على قول البعض، والمراد في هذا الموضع ما قيل من أنه الإخلاص فكأنه قال تمسكوا بهذه الأمور التي أمرت ونهيت على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به. ولذلك قال: {غير مشركين به} وهذا يدل على أن الواجب على المكلف أن ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص فبين تعالى مثلين للكفر لا مزيد عليهما في بيان أن الكافر ضار بنفسه غير منتفع بها. وهو قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} قال صاحب الكشاف إن كان هذا تشبيهاً مركباً فكأنه قيل من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرقت أجزاؤه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وإن كان تشبيهاً مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله كالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر الفاء مع كسرهما وهي قراءة الحسن وأصلها تختطفه وقرئ الرياح، ثم إنه سبحانه أكد ما تقدم فقال: {ذلك ومن يعظم شعائر الله} واختلفوا فقال بعضهم يدخل فيه كل عبادة وقال بعضهم بل المناسك في الحج وقال بعضهم بل المراد الهدي خاصة والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء فإذا فسرنا الشعائر بالهدايا فتعظيمها على وجهين:
أحدهما: أن يختارها عظام الأجسام حساناً جساماً سماناً غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يتغالون في ثلاثة ويكرهون المكاس فيهن الهدي والأضحية والرقبة.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك، «وقال بل أهدها وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب» والوجه الثاني: في تعظيم شعائر الله تعالى أن يعتقد أن طاعة الله تعالى في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لابد وأن يحتفل به ويتسارع فيه {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي إن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لابد من راجع من الجزاء إلى من ارتبط به وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه. ولكن لما كان قلبه خالياً عنها لا جرم لا يكون مجداً في أداء الطاعات، أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص، فإن قال قائل: ما الحكمة في أن الله تعالى بالغ في تعظيم ذبح الحيوانات هذه المبالغة؟


{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
اعلم أن قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدي الذي فيه منافع إلى وقت النحر، ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده، والأول هو قول جمهور المفسرين، ولا شك أنه أقرب. وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب ظهورها، فأما قوله: {إلى أجل مسمى} ففيه قولان:
أحدهما: أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهدياً فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون {لكم فيها} أي في البدن {منافع} مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها {إلى أجل مسمى} يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الشافعي، وهذا القول أولى لأنه تعالى قال: {لَكُمْ فِيهَا منافع} أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هدياً وروى أبو هريرة أنه عليه السلام مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول الله إنها هدى فقال اركبها ويلك وروى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً».
واحتج أبو حنيفة رحمه الله على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات، وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها، ويمكنه الانتفاع بها فكذا هاهنا.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله: {هَدْياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95] وبالجملة فقوله: {مَحِلُّهَا} يعني حيث يحل نحرها، وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله، ودليله قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة، ولكنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة، قال عليه السلام: «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر».
قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه.
أما قوله تعالى: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسم الله} فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضرباً من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم الله تقدست أسماؤه على المناسك، وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً منسكاً بكسر السين وقرأ الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع.
أما قوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} ففي كيفية النظم وجهان:
أحدهما: أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني: {فإلهكم إله واحد} فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة، والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه، ومن انقاد له كان مخبتاً فلذلك قال بعده {وَبَشّرِ المخبتين} والمخبت المتواضع الخاشع.
قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض، يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم، والخبت هو المطمئن من الأرض. وللمفسرين فيه عبارات أحدها: المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة.
وثانيها: المجتهدين في العبادة عن الكلبي.
وثالثها: المخلصين عن مقاتل.
ورابعها: الطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد.
وخامسها: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله، ثم لذلك الوجل أثران أحدهما: الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله: {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} وعلى ما يكون من قبل الله تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب.
فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني: الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله.
أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله: {والمقيمي الصلاة} وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} قرأ الحسن {والمقيمي الصلاة} بالنصب على تقدير النون، وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8